هزيمة العدالة والتنمية- أسباب وتداعيات على مستقبل السياسة التركية

لأول وهلة منذ تأسيسه في عام 2002، يواجه حزب العدالة والتنمية نكسة انتخابية تاريخية، إذ كشفت النتائج الأولية للانتخابات المحلية عن تقدم ملحوظ لحزب الشعب الجمهوري بنسبة تقارب اثنين بالمئة. هذه الهزيمة تتجاوز مجرد خسارة، إذ تشمل فقدان الحزب الحاكم لمعاقله الراسخة في منطقة الأناضول، تلك القواعد التي دعمت بقوة فوز أردوغان في الانتخابات الرئاسية قبل أقل من عام. إنها لحظة مفصلية تثير تساؤلات عميقة حول مستقبل الحزب ومسار السياسة التركية.
هذا التحول الدراماتيكي فتح آفاقًا واسعة للنقاش المستفيض حول الأسباب الجوهرية التي أدت إلى هذه الهزيمة الموجعة، وإعادة تقييم الاستراتيجيات السياسية والاقتصادية المتبعة.
لم يقتصر الحديث على أسباب الهزيمة فحسب، بل امتد ليشمل استشراف ملامح السياسة التركية في المرحلة المقبلة، واستكشاف إمكانية الذهاب إلى انتخابات مبكرة. كما تناول مصير حزب العدالة والتنمية، وما إذا كان سيتمكن من إطلاق عملية تجديد شاملة قبل الانتخابات الرئاسية والبرلمانية الحاسمة في عام 2028؟
أسباب الهزيمة
تضافرت عوامل عديدة للإطاحة بحزب العدالة والتنمية، ومن أبرزها ما يلي:
أولًا: العامل الاقتصادي، الذي تجلى في السياسات الاقتصادية التي تم تبنيها عقب الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، والتي شكلت خيبة أمل مريرة لدى جموع المواطنين. الارتفاع الشديد في معدلات التضخم، وزيادة سعر الفائدة، مع الانخفاض المستمر في قيمة العملة الوطنية، أدت إلى ارتفاع حاد في تكاليف المعيشة، على الرغم من الزيادات الكبيرة التي طالت الحد الأدنى للأجور ورواتب موظفي القطاع العام، إلا أنها تلاشت بفعل التضخم المتصاعد، الذي وصفه أردوغان مؤخرًا بأنه بمثابة الثقب الأسود الذي يبتلع أي تحسينات في الأجور.
وعلى الرغم من الوعود بانحسار التضخم في النصف الثاني من العام الحالي، وفقًا للخطة الاقتصادية التي يقودها وزير الخزانة والمالية، محمد شيمشك، إلا أن الناخبين قرروا معاقبة الحزب الحاكم في صناديق الاقتراع، معبرين عن استيائهم العميق من الأوضاع الاقتصادية المتردية.
ومع ذلك، يصر أردوغان على المضي قدمًا في تنفيذ الخطة الاقتصادية، ففي خطابه المعهود من شرفة المقر العام لحزب العدالة والتنمية في أنقرة مساء يوم الانتخابات، أكد أن حكومته ستواصل تطبيق برنامجها الاقتصادي، وتجنب الإجراءات الشعبوية، والتركيز على خفض التضخم واستعادة الاستقرار الاقتصادي. وهذا يعني، بعبارة أخرى، تجديد الثقة في الوزير شيمشك وسياساته الاقتصادية.
إذ يعلق أردوغان آمالًا كبيرة على أن تحقق الخطة الاقتصادية أهدافها المرجوة، خلال السنوات الأربع المتبقية قبل الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقبلة في عام 2028.
ثانيًا: المقاطعة الجماهيرية الواسعة للانتخابات، حيث بلغت نسبة التصويت حوالي 78.3%، مقارنة بنسبة 84.7% في الانتخابات السابقة. وهذه المقاطعة كان لها أثر مدمر على حزب العدالة والتنمية، إذ تشير الأرقام الأولية إلى عزوف كبير من قاعدته الانتخابية عن التصويت، مما أدى إلى خسارته حوالي 9% من الأصوات، مقارنة بانتخابات عام 2019.
وتنوعت أسباب هذه المقاطعة، ما بين أسباب اقتصادية، خاصة من قبل المتقاعدين الذين يبلغ عددهم حوالي 16 مليون متقاعد، والذين عبروا عن غضبهم في وقت سابق من هذا العام لعدم رفع الحد الأدنى لمعاشاتهم التقاعدية أسوة بموظفي القطاع العام، إلا أن الحكومة لم تستجب لمطالبهم. وهناك أسباب حزبية تتعلق بعدم رضا القاعدة الانتخابية عن بعض المرشحين.
ومع تنوع أسباب المقاطعة، يبقى أن هناك قطاعًا واسعًا من ناخبي الحزب اختاروا معاقبته بشكل سلبي، حيث يدرك الناخب أن كل صوت مقاطع يعزز قوة المعارضة.
ثالثًا: الالتزام الأيديولوجي الراسخ لدى جمهور حزب الشعب الجمهوري، والذي أثبت أن ولاءه لمبادئ الحزب العلمانية يفوق اهتمامه بالخدمات التي تقدمها البلديات.
ففي إزمير، معقل حزب الشعب الجمهوري، والتي توصف بأنها "قلعة العلمانية"، تدهورت الخدمات وتآكلت البنية التحتية، وعانى المواطنون تحت رئاسات حزب الشعب الجمهوري المتعاقبة لبلديتها، وهو وضع كان من شأنه أن يدفع الناخبين إلى تغيير خياراتهم لصالح حزب آخر، إلا أنهم اختاروا التصويت بكثافة لمرشح حزب الشعب، ومنحوه فوزًا ساحقًا على مرشح حزب العدالة والتنمية، بسبب البعد الأيديولوجي العميق.
وفي إسطنبول، حيث فاز أكرم إمام أوغلو بفارق كبير يصل إلى 11% عن مرشح حزب العدالة والتنمية، مراد كوروم، يبدو البعد الأيديولوجي جليًا، فالرجل لم يقدم الكثير للمدينة خلال فترة ولايته الأولى التي دامت 5 سنوات، وعجز عن الوفاء بوعوده الانتخابية السابقة، بالإضافة إلى تفاقم أزمات المواصلات والمرور والنظافة، إلا أنه يحظى بدعم قاعدة أيديولوجية صلبة ترى فيه أملًا لتحقيق الفوز في انتخابات 2028 الرئاسية، وإنهاء ما يقرب من ربع قرن من حكم "الإسلاميين" المحافظين.
رابعًا: نجاح التحالفات التي عقدها أكرم إمام أوغلو مع حزب "المساواة وديمقراطية الشعوب" الكردي اليساري، حيث تجنب عقد تحالف صريح معه لتلافي أخطاء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، بسبب علاقة الحزب مع حزب العمال الكردستاني المحظور.
لذا، قدم الحزب "الكردي" مرشحًا رمزيًا لرئاسة البلدية، فيما كانت التعليمات الصارمة لقاعدته الانتخابية هي التصويت لإمام أوغلو، وهذا ما أكدته مرشحة الحزب في إسطنبول، ميرال دانيش بشتاش، حيث صرحت قائلة: "يجب ألا يغترّ أكرم إمام أوغلو بفوزه، ويتوهم بأن الأصوات التي نالها هي من حزبه فقط. ناخبو حزبنا أيضًا صوتوا له بهدف تأمين خسارة حزب العدالة والتنمية".
في المقابل، لم يقم حزب الحركة القومية، الشريك في تحالف الجمهور، بالدور المأمول في الحشد وتحقيق الفارق، بل تعرض هو الآخر لهزيمة قاسية، بحصوله على أقل من 5%، مقارنة بنسبة 7.31% في انتخابات عام 2019.
خامسًا: بروز حزب "الرفاه من جديد" بقوة، والذي يعتبر أكبر الفائزين في هذه الانتخابات، إذ حلَّ ثالثًا بأكثر من 6%.
فالخلفية "الإسلامية" للحزب، وقيادة فاتح أربكان، نجل السياسي الراحل نجم الدين أربكان، مؤسس حركة الرؤية الوطنية "المللي غوروش"، جعلته ملاذًا آمنًا للغاضبين من حزب العدالة والتنمية، مما مكنه من الفوز برئاسة بلدية شانلي أورفا، بالإضافة إلى ما مجموعه ستون بلدية فرعية وقضاء.
الأسباب التي أتاحت للحزب تحقيق هذا الانتصار متعددة، ولعل أبرزها الخطاب الحاد الذي تبناه الحزب في مواجهة العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، ومطالبته بإصلاح تشريعي شامل فيما يتعلق بالقضايا المتعلقة بالمرأة والأسرة، والتي يرى الحزب أنها أضعفت دور الأسرة وألحقت الظلم بالرجل، فضلاً عن مخالفتها للشريعة الإسلامية.
هذا الخطاب القوي أدى إلى تفوق الحزب على الحزبين المنشقين عن حزب العدالة والتنمية، وهما حزب المستقبل الذي يرأسه أحمد داود أوغلو، والذي حصل على أقل من واحد بالمئة، وحزب التقدم والتغيير "ديفا" الذي يرأسه علي بابا جان، والذي حصل على أقل من نصف بالمئة! ونجح في استقطاب شريحة لا بأس بها من المحافظين.
هل تشهد تركيا انتخابات مبكرة؟
دفعت نتائج الانتخابات البعض إلى التكهن بإمكانية إجراء انتخابات مبكرة في المستقبل القريب.
ولكن في اعتقادي أن هذه التكهنات مبالغ فيها ولا تتفق مع الواقع، فالدستور التركي يحدد آلية واضحة لإجراء انتخابات مبكرة، ولا توجد أي علاقة بينها وبين الانتخابات البلدية. الجهتان الوحيدتان اللتان تمتلكان الحق في الدعوة إلى انتخابات مبكرة، وفقًا لشروط وآليات محددة، هما رئيس الدولة والبرلمان.
كما أن الانتظار حتى انتهاء ولاية الرئيس أردوغان في عام 2028 يصب في مصلحة المعارضة، إذ لن يحق له الترشح حينها، لاستنفاده المدتين الرئاسيتين المنصوص عليهما دستوريًا، أما الانتخابات المبكرة فستمنحه الحق في الترشح مرة أخرى.
وفي هذا السياق، استبعد أردوغان ضمنيًا فكرة الانتخابات المبكرة في خطابه المسائي عقب ظهور النتائج الأولية، حيث أكد أنه سيستغل السنوات الأربع المتبقية لتصحيح الأخطاء التي كشفت عنها النتائج، خاصة داخل الحزب، والذي من المفترض أن يشهد تطويرًا شاملًا على مستوى القيادات والأفكار، وتطوير أساليب الاتصال الجماهيري التي يبدو أنها تراجعت بشدة مع طول فترة الحكم. كذلك ستتيح هذه السنوات فرصة لظهور آثار الإصلاح الاقتصادي.
انتصار الديمقراطية
على الرغم من خسارة الحزب الحاكم، إلا أن التجربة الديمقراطية في تركيا خرجت منتصرة.
فقد أشرف رئيس الدولة وحكومته على الانتخابات بكل شفافية ونزاهة، مما أتاح للمعارضة تحقيق الفوز في نهاية المطاف.
كما سارت الانتخابات كالمعتاد بهدوء وسلاسة، إذ أدلى أكثر من 45 مليون ناخب بأصواتهم، وأغلقت اللجان في مواعيدها المحددة، وتم فرز الأصوات، ثم أُعلنت النتائج الأولية، ولم تكن هناك أي شكاوى من تزوير أو تلاعب أو تضييق على المعارضة.
وفي ختام هذا اليوم التاريخي، توالت التصريحات من أردوغان وزعماء المعارضة، معترفة بصحة الانتخابات ومحترمة لنتائجها، ومؤكدة أن الفائز الأكبر في هذه الانتخابات هو الديمقراطية التركية وإرادة شعبها.
